مقدمة:
تميز العصر الحديث عن باقي العصور الأخرى بتفسير الكون باستخدام الملاحظة والتجربة وشمل جميع المعارف باستخدام الحكمة والابتعاد نوعا ما عن ما كان سائدا في العصور الوسطى والدور الرائد الذي كانت تلعبه الكنيسة آنذاك ومحاولته لتصنيف العلوم إلي صنفين ميتافيزيقي وأخر فيزيقي فهذا التقدم تمخض عنه ظهور فلاسفة كبار أعطوا للفلسفة زخما كبيرا من الأفكار و التقدم بها إلى الأمام وجعلها تعود إلى مكانتها الأولى في إحياء الفكر والعلوم بشتى أنواعها ومن بين هؤلاء الفلاسفة الفيلسوف الكبير رينيه ديكارت الملقب ب أبو الفلسفة الحديثة الذي قد برز في عدة علوم فلسفية وعلمية فسنحاول في هذا البحث أن ندرس فلسفة الوجود لديه حيث أن دراسة الوجود كانت محط أنظار و اهتمام فلاسفة بارزين قبله اثبتوا أدلتهم على كيفية الوجود, ولكن ذلك لم يمنعه بان يثبت هو أيضا بأدلة سنوردها على جوهر الوجود والكيفية التي أنشء بها هذا الكون ومن المحرك الأول له وهل الإنسان مادي أو روحي ,فهذه الأدلة التي توصل إليها ديكارت كانت ثمرة وإضافة قيمة لتاريخ الفلسفة الحديثة وسنتعرف أيضا إن كانت هذه الأدلة وجدت مؤيدين يدعمونها أو تعرضت إلى منتقدين انتقدوها والتعرف على وجهة نظر الطالب حيال الوجود لديه.
رأى ديكارت أن ماهية العالم هي الامتداد طولا وعرضا وعمقا بخواصه الهندسية . وهي ماهية لا ندركها بالحواس أو المخيلة.وإنما ندركها بالفهم.و اعتمد ديكارت على الفهم وحده ليثبت أن الامتداد هو حقيقة المادة الطويلة, العريضة العميقة التي تستطيع أن تتقبل عددا لا متناهيا من التغيرات وليثبت انه أمر ندركه مستقلا عن الفكر.وفي اكتشافه للنفس كجوهر مفكر ,وغير ممتد أمر لا بد منه لنستطيع أن ننفي عن نفوسنا كونها مصادر لتلك الأفكار الطارئة التي تظهر لنا واردة علينا من الخارج,و يقوم تصور ديكارت للوجود بصفة عامة على ثنائية الروح والجسد: هناك، من جهة، عالم داخلي ذو طبيعة روحية ومن خصائصه التفكير وعدم الامتداد في المكان، ويشمل الأفكار والمعتقدات والانطباعات الحسية وكل التجارب الذاتية؛ وهناك، من جهة أخرى، عالم خارجي ذو طبيعة مادية، وما يميزه هو الامتداد وانتفاء القدرة على التفكير، ويشمل الأجسام الطبيعية والقوى الفيزيائية. وينطبق مبدأ ثنائية الوجود على الإنسان نفسه، وتتجلى من خلال ازدواجية الروح والبدن.
ميز ديكارت، إذن، بين الروح والجسد، ولكنه أقام بينهما علاقة، هي علاقة التفاعل المتبادل التي تجعل منهما وحدة أو كلية لا انفصام فيها، وهذه الوحدة هي ما يعبر عنه مفهوم الإنسان. ولكن ما الذي يجعل هذه الوحدة ممكنة رغم الاختلاف الجوهري الموجود بين الروح والجسد ؟ يقدم لنا الدكتور Pedro V. Amaral من جامعة كاليفورنيا جوابا شافيا على هذا السؤال، يقول بالحرف الواحد:
لم يكن ديكارت يتوفر على مثل ذلك البناء النظري الذي يقوم على نظرية الانسجام الأفلاطونية التي استعملها سواريز (الفيلسوف السكولائي الكبير) لدعم نظريته المتعلقة
بوحدة الروح والجسد. وبالنتيجة فإنه كان على ديكارت أن يبتكر مفهوم "الوعي "باعتباره العنصر الذي يقوم بالتنسيق بين نشاط العقل ونشاط الجسد.
ويعتبر الوعي بالذات، في نظر ديكارت، أكثر الأشياء وضوحا، فقد شك في وجود البدن وفي وجود العالم. وأما الشيء الوحيد الذي لا يطاله الشك فهو الوعي بالذات باعتبارها ذاتا مفكرة: فإذا كنت أشك، فإن معنى ذلك أني أفكر، وإذا كنت أفكر فإنني موجود؛ يمثل التفكير، إذن، قوام وجودي. هذه فكرة بديهية، وكذلك تعتبر الأفكار المتضمنة في الذات المفكرة أكثر الأشياء وضوحا على الإطلاق. ويمكن تعميم المبدأ الديكارتي على النحو التالي: إن ما يميز الإنسان هو وعيه بذاته، وهذا الوعي هو الذي يجعل منه كائنا متميزا، ويرقى به إلى مستوى الشخص الحر المستقل(1) .
وإذا أردنا تدليلا على الامتداد و إثباتا لها بصفة قاطعة على أنها هي الماهية المادية فلن نجد أحسن من مثال قطعة الشمع.
((ولناخذ مثلا هذه القطعة من شمع العسل . لقد أخذت لتوها من الخلية فلم تذهب عنها بعد حلاوة العسل الذي كان فيها, وما زالت بقية من أريج الزهور التي اقتطفت منها لونها وحجمها وشكلها أشياء ظاهرة للعيان. وهي جامدة وباردة ويسهل عليك أن تتناولها باليد وإذا نقرت عليها خرج منها صوت وعلى الجملة نج فيها جميع الأشياء التي تجعلنا نعرف معرفة متميزة.
ولكن هاهي ذي قد اقتربت من النار, وأنا أتكلم فماذا أشاهد؟ تتلاشى بقية طعمها, وتذهب رائحتها ويتغير لونها ويذهب شكلها ويزيد حجمها وتصبح من السوائل, وتسخن حتى يكاد يصعب لمسها, ومهما تنقر عليها فلن ينبعث منها صوت.
آما تزال الشمعة باقية بعد هذه التغيرات كلها ؟ لابد من التسليم بأنها باقية , ولا احد يستطيع أن ينكر ذلك أو يحكم حكما مخالفا .وإذن, فما هو الشيء الذي كنا نعرفه في قطعة الشمع هذه معرفة شديدة التمييز؟ لاشيء يقينا من كل ما لاحظته فيها عن طريق الحواس إذ أن ما وقع منها تحت حواس الذوق أو الشم أو البصر أو اللمس أو السمع قد تغير كله , في حين أن هذه الشمعة ليست هي تلك الحلاوة التي في العسل , ولا ذلك الأريج الزكي الذي يفوح من الإزهار , ولا ذلك البياض , ولا ذلك الشكل , ولا ذلك الصوت . وإنما هي جسم كان يلوح لي منذ قليل محسوسا في هذه الصور, وهو الآن محسوس في صور أخرى. ولكن ما هو على التدقيق الشيء الذي أتخيله حين أتصورها على هذا النحو؟
لننظر في الأمر بإمعان ولنستبعد كل ما ليس من خواص الشمعة لنرى ما يتبقى بعد ذلك. انه لا يبقى حقا إلا شيء ممتد لين متحرك)).
فامتداد الشمعة هو الذي يبقى منها بعد التغيرات التي تطرأ عليها . فإذا زال زالت معه . انه واقعها والواقع الذي يطابقه التصور الذي لنا عن الأشياء الجسمانية كلها))(2).
إن كل هذه الأشياء موجودة ,والعالم الخارجي الذي تكونه موجود لأن الله الذي خلقنا وخلقها صادق فهو قد توصل بفكره إلى وجود إلها له العزة والملك ,أزليا,لا متناهيا منزها عن التغير عالما بكل شيء قادرا على كل شيء خالقا لجميع الأشياء الخارجة عن ذاته فقد رأى أنها فكرة لايمكن أن تكون صادرة عنه بحال , وتأبى أن تكون كذلك لأنها تملك في ذاتها وجودا موضوعيا أكثر مما تملك الأفكار التي تمثل الجواهر المتناهية(3).
ورأى ديكارت أن الطبيعة التي تعمل في كل شيء طبقا لقوانين الميكانيكا الدقيقة تعمل بذلك لأن الله فرض عليها الخضوع لهذه القوانين. وان الامتداد هو الجوهر المادي نفسه أو العالم, وقواعد الميكانيكا هي التي تفسر لنا تكونه وتطوره من بدايته إلى ما هو عليه الآن.
ويوضح ديكارت ذلك وكيفية وقوعه في كتابه "العالم " وفي كتابه" مقال الطريقة " حيث يترك كل هذا العالم ويقتصر على الكلام عما قد يحدث في عالم جديد لو أن الله خلق الآن في مكان ما , في الفضاء الخيالي , مادة كافية لتأليفه , ثم حرك الأجزاء المختلفة لهذه المادة تحريكا مختلفا , وعلى غير نظام , بحيث ألف ذلك خليطا مشوشا على النحو الذي يتوهمه الشعراء .ولم يصنع بعد ذلك إلا شيئا واحدا وهو إمداد الطبيعة بعونه المادي وتركها تفعل وفقا للقوانين التي أقامها.
وحيث يفصل الكلام على المادة التي تكون عنها هذا العالم بعد خلق الله لها وفقا للقوانين التي أقامها فيها , وعلى الضوء الذي يخترق في لحظة واحدة مسافات السموات الشاسعة,و ينعكس من السيارات و النجوم المذنبة على الأرض و الشمس والكواكب الثابتة لأن كله يكاد يصدر عنها وعلى السماوات لأنها تنقله وعلى الكواكب السيارة والنجوم المذنبة, والأرض لأنها تعكسه, وخصوصا على جميع الأجسام التي على الأرض ,لأنها إما ملونة وإما شفافة وإما مضيئة , وأخيرا على الإنسان لأنه الناظر إلى جميع هذه الأشياء.
إن ديكارت يشرح هذه الأمور وكيف تتكون وتتطور بصفة آلية وكيف أن القوانين التي تفسرها هي على نمط خلق الله معه عوالم كثيرة فيها عالم واحد لا تراعى فيه .(4)
قد قيد ديكارت نفسه بالتفسير الآلي للجواهر المادية ,فاعتبر الحيوانات وكذلك الإنسان من حيث جسمه مجر آلات ,فالإنسان والحيوان في نظره شيء واحد إلا أن الإنسان يمتاز عنه بنفسه التي هي مرتبطة بجسمه من جهة ومستقلة عنه من جهة أخرى لأن ماهيتها هي التفكير وماهية الجسم هي الامتداد فيقول لما كنت اعرف أن جميع الأشياء التي أتصورها في وضوح وتميز يمكن أن يكون الله أوجدها على نحو ما أتصورها ,فيكفي أن يتيسر لي تصور شيء بدون شيء آخر ,لكي استوثق من أن الشيئين متميزان أو متغايران : لأن من الممكن أن يوجد ا منفصلين على الأقل بقدرة الله الواسعة ولا أهمية لمعرفتي بأي قوة يحصل هذا الانفصال لكي اضطر إلى الحكم عليها بأنهما متغيران ,وإذا ذهبت من كوني اعرف بيقين أني موجود واني مع ذلك لا ألاحظ أن شيئا آخر يخص بالضرورة طبيعتي أو ماهيتي سوى أني شيء مفكر , استطعت القول بأن ماهيتي إنما انحصرت في أني شيء مفكر أو جوهر كل ماهيته أو طبيعته ليست إلا التفكير , ومع أن من الممكن أن يكون لي جسم قد اتصلت به اتصالا وثيقا إلا انه لما كان لدي من جهة فكرة واضحة ومتميزة عن الجسم , من حيث انه ليس إلا شيئا ممتدا وغير مفكر , فقد ثبت أن هذه الآنية ,اعني نفسي التي تتقوم بها ذاتي وماهيتي ,متميزة عن جسمي تميزا تاما وحقيقيا , وأنها تستطيع أن تكون أو أن توجد بدونه(5).
انتقد ليبنتز ديكارت في كثير من الأمور وخالفه خاصة في نظريته التي تخلط بين الوجود المادي والامتداد الخالص ويرى إن ماهية الجوهر المادي يجب علينا أن نبحث عنها في القوة كما يرى أن القوة الحية هي التي تحفظ الحركة وليست كمية الحركة .وهناك انتقاد ينتقده فيه كانط لإثباته وجود الله بالدليل الانطولوجي حيث يرى كانط أننا لا نستطيع أن ننتقل مما هو موجود في فكرنا لإثبات شيء في الواقع, ويرى أن كوننا لا نستطيع أن نفكر في الله ككائن غير موجود لا يبرر لنا إثبات وجوده ,كما يرى أن إثباتنا الوجود لله لا يدل على شيء لأن الوجود وضع أو إثبات ,أي لفظ يدل على أن شيئا ما له قوام , ولا يدل على صفة زائدة فيه , أو على كمال لأنه لفظ لا يمكن اعتباره محمولا من المحمولات كقول : الله حكيم, وعالم, ورحيم ,وموجود فإنني لا أستطيع أن اعتبر لفظ موجود مثل الألفاظ التي قبله لأنها محمولات ,وهو غير محمول ومع ذلك كله يوجد أيضا من دافعوا عن ديكارت وردوا على كانط بما ينقد انتقاداته.
في وجهة نظري أن توصل ديكارت إلى وجود الله وعلى انه هو المتحكم في كل شيء هودليل سليم لأنه لايمكن أن تكون هذه الصورة صادرة عنه بحال لأنها تملك في ذاتها وجودا موضوعيا أكثر مما تملك الأفكار التي تمثل الجواهر المتناهية ولا يمكنه أن يعتبرها من ابتكارات نفسه لأنها وضعت فيه لكي تكون علامة للصانع مطبوعة على صنعته وأيضا توصله إليها باستخدام الفكر الذي يراه ليس من طبع نفسه واختراعه ولا يبدو مفطورا فيه فهي فكرة لا تشبه غيرها ولا يمكنه أن يعاملها مثل الأخريات لأنه بالنسبة إليها لا شيء ولأن وجوده يقهره كلما فكر فيها فهي تحيط به وتتسلط عليه مثلما تطلق سراحه وتفتح أمامه الطريق,ولكن دليله على فصل الجسد عن الروح بحيث يرى أن الجسد مقيد لا يمكنه أن يتعدى ذاته والنفس لها خاصية تجعلها تتطلع إلى الخيالات الأخرى المنفصلة عنها هوتعقيدا في تصور عنصرين متمايزين في صورة شكل واحد ,والكيفية التي امتزجا فيها ,فيرى الطالب أن هذه العلاقة هي علاقة معقدة الحل والتصور وكيفية الارتباط بينهما مسألة جدلية يصعب التوصل إليها بأفكارنا و تكهنها يكون بالاعتقاد في أن خالقها هو الله و لأن الذي أوجدها هو الله ويمكن اعتبارها نقطة من ضمن النقاط التى يمكن الابتداء من عندها في النظر إلى المعارف و القيم الإنسانية .
محفوظ
المراجع:
(1)- http://www.agdez.com/vb/showthread.php?t= 7322 بتاريخ 30\04\2009الساعة 8:15م
(2)-كتاب:مشكلة الدور الديكارتي \د.الربيع ميمون\الشركة الوطنية للنشر والتوزيع.الجزائر1982\ص42-43.
(3)- كتاب:مشكلة الدور الديكارتي \د.الربيع ميمون\الشركة الوطنية للنشر والتوزيع.الجزائر1982\ص34.
(4)- )- كتاب:مشكلة الدور الديكارتي \د.الربيع ميمون\الشركة الوطنية للنشر والتوزيع.الجزائر1982\ص47.
(5)-كتاب:ديكارت التأملات في الفلسفة الأولى\د.عثمان أمين\مكتبة الأنجلو المصرية.القاهرة1980\ص249.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق